كانت أمي قد قامت، وصلت هي أيضا، قبل عزف أبي فوق أجسادنا، موسيقى الجاز والصخب، تحلب أمي الأغنام، تأخذ قليلا منه، وتغليه لنا، يأخذ كل منا نصيبه، يضعه في طبق، ثم يفتت فيه الخبز الشامي، أو البتاو، نأكل وبعد ذلك يقسم أبي علينا العمل، ويحدد لنا خط السير، الذي نسلكه بأغنامنا، وفي بعض الأيام، يقسمنا فريقين فريق يسرح بالخراف، وأخرى للجديان، هذا ربما يتوقف على الطقس، أو أماكن الكلأ، إن كان المرعى خصيبًا، أو قليل الخصوبة.
حين كنا ننقسم فريقين، كنت وأختي التي تكبرني، نصبح فريقا، نذهب إلى مكان يسمى المشروع، نهر صغير للري غير عميق، نترك الجديان فيه، تستمتع بالماء، تشرب وترتوي وترتاح من حرارة الجو بترطيبها بالماء، نأخذ أنا وأختي بجوارها مكانا ظليل، ونظل نلعب نحاول أن نستعيد طفولتنا المغتصبة، نذكر أنفسنا بأننا لازلنا أطفال، فقد أنسانا الشقاء الطفولة واللعب والجري.
كانت هذه الأيام، هي أسعد أيامنا نشعر بأنفسنا ونذكرها، وننطلق في أيام قليلة إلى الحياة، يحدونا الأمل والرجاء، في أن ما نحن فيه، إنما هو وقت، وسوف ينتهي يوما ما، ونسرح بخيالنا، ونسرها بأمل موعود تملأنا البهجة والسعادة، نخرج ما أعدته لنا أمنا في الخرج، قطعة الجبن، وشقق العيش الناشف، أو العيش الشامي، نأكل في تأني شديد، أنا وهي، ونتسامر بالحديث حول كل شيء، أمي وأبي والمدرسة والأغنام، ونلعب ونطل على الأغنام، وتنتهي الساعات الممتعة، كأنها لحظات تمر في سرعة خاطفة، نقوم نهش على الأغنام، وننطلق في البحث، أو كما قال لنا أبي على مكان الكلأ، لا نستطيع أن نأوي إلى البيت، قبل أن تظلم الدنيا، فالحر يؤذي الأغنام، وربما تموت.
كانت ساعة الغروب شاقة، فالناموس يهجم علينا، ينغص علينا، يطن في آذاننا، ويلدغ ساقينا الضعيفة، ووجوهنا، في بعض الأحيان نشعل نارا حتى يطير الناموس بعيدا عنا، ولكن يقتل الدخان صدورنا، ونظل نكح فترة طويلة، وتأتي ساعة الفرج، ونذهب إلى البيت، وندخلها الزرائب، ونحلبها، ونأخذ اللبن، ونسعى أنا وأختي على قدمينا، نحمله بالتبادل، وأحيانا نأخذ الحمار نحمله عليها، نأخذ إلى المختبر ويعطي لنا ورقة، مقيد عليها الحساب، الذي يعطينا إياه، في الخميس من كل أسبوع، نعود إلى البيت نتعشى، ربما رز باللبن، أو عصيدة، أو كشك أو عدس أوبصارة، وقليل ما كنا نأكل طبيخ أو لحوم، ربما يوم في الأسبوع أو على أقصى تقدير يومين، نستمع إلى التلفاز قليل، ثم يغلبنا النوم، ولا ندري بأنفسا إلا وعصى أبي فوقنا توقظنا من جديد، ندور مع الزمن دورته، كل يوم نكبر رزة، كما كنا نعتقد ونتعلم أن الرزة شيء ضئيل، أما الأن فقد توقفت الرزة، وتوقف معها أشياء كثيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة